مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


قصةُ الفلسفة بالأندلس

مغربنا 1 المغرب

تاريخ الفلسفة الأندلسية له قصة تحدث عنها أغلب الدارسين لها من القدامى والمحدثين، فجميع المصادر تؤكد على خصوصية الفلسفة الأندلسية من حيث بدايتها ومراحل تشكلها، ما جعلها متميزة عن مثيلتها في المشرق وذلك لأسباب تاريخية وسياسية ودينية، إن غرضنا في هذا القول هو الوقوف على هذه الخصوصية التي طبعت تاريخ الفلسفة بالأندلس أو بشكل أدق بداية ظهور الفلسفة بالأندلس، هذا الغرض سوف نصل له عن طريق قراءة بعض النصوص التي تَبرُزُ من خلالها هذه الخصوصية، وهي نصوص تناول مؤلفوها بالفحص والتدقيق إشكالية التأريخ للفسفة الأندلسية، بداية بأحد كتب الطبقات وهو كتاب صاعد الأندلسي “طبقات الأمم” بإعتباره شهادة من رجل عاصر بداية تشكل الفكر الفلسفي الأندلسي، مرورا بإبن باجه الذي أسس لأول مرة مدرسة فلسفية مشائية بالأندلس، وأخيرا إبن طفيل ومؤلفه حي ابن يقظان. فكيف ظهرت الفلسفة بالاندلس؟ وما هي الشروط التي ساهمت في هذا الظهور؟ وهل مرت الفلسفة في الأندلس بنفس المسالك التي اتخذتها الفلسفة بالمشرق؟

تعتبر شهادة صاعد الأندلسي بالغة الأهمية بالنسبة لتاريخ الفلسفة وبداية ظهورها بالأندلس، لأنه من جهة شهادة حية ومعاصرة للبدايات الأولى، وقد نقل لنا في مؤلفه “طبقات الأمم” ما تميزت به الحياة الفكرية والحضارية للأندلس في زمنه، ومن جهة لموضوعيته في نقل صورة هذه الحياة فهو لم يعمد في نصه إلى إصدار الأحكام على المراحل العلمية أو الشخصيات التي أرخ لها في الأندلس، بل كان ينقل لنا ما وصله أو سمعه أو قرأه دون تدخل.

يقدم لنا نص “طبقات الأمم” في الفصل المخصص للعلوم بالأندلس ما تميزت به الحياة الفكرية للأندلس قبل دخول المسلمين لها ويقول:

“وأما الأندلس فكان فيها أيضا بعد تغلب بني أمية عليها جماعة عنيت بطلب الفلسفة ونالت أجزاء كثيرة منها وكانت الأندلس قبل ذلك في الزمان القديم خالية من العلم” ثم يضيف من أجل تأكيد ذلك أن “الأندلس قبل ذلك في الزمن القديم (كانت) خالية من العلم لم يشتهر عند أهلها أحد بالإعتناء به (العلم) … ولم تزل على ذلك عاطلة من الحكمة إلى أن إفتتحها المسلمون في شهر رمضان سنة اثنين وتسعين من الهجرة (711م)” لابد من الوقوف عند هذه الشهادة التي تدل على أن الأندلس لم تعرف تقاليد فكرية أو اتجاهات فلسفية قبل دخول بني أمية لها، بل أنها خالية من العلم عامة لا حظ لسكانها منه، ولم يشتهره عندهم أحد بمزاولة الحكمة، غير أن صاعد الأندلسي بعد هذا النص يأتي في مكان اخر ليقول:

“إنه لما كان وسط المائة الثالثة من تاريخ الهجرة، وذلك في أيام الأمير الخامس من ملوك بني أمية وهو محمد بن عبد الرحمان الداخل بالأندلس تحرك أفراد من الناس إلى طلب العلوم ولم يزالوا يظهرون ظهورا غير شائع إلى قريب وسط المائة الرابعة” نلاحظ هنا أن بداية ظهور العلوم كان على يد أفراد وبشكل مستتر أو خفي وليس علني وشائع، وهو ما يميز تاريخ الفسلفة بالاندلس بإعتبارها مجهود بذله أفراد يظهرون ويختفون بحسب الظروف السياسية ورقابة رجال الدين، غير أن الوضع سيتغير نسبيا مع بداية القرن الرابع الهجري حيث ستتحرك الدولة والسلطة السياسية لبناء مشروع علمي وفلسفي يشبه كثيرا ما فعله المأمون بالمشرق، يقول صاعد الأندلسي:

“ثم لما مضى صدر من المائة الرابعة انتدب الأمير الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمان الناصر لدين الله وذلك في أيام أبيه إلى العناية بالعلوم و إلى التبار أهلها واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار المشرق عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة والحديثة وجمع منها في بقية أيام أبيه ثم في مدة ملكه من بعده ما كاد يضاهي ما جمعتهُ ملوك بني العباس في الأزمنة الطويلة وتهيأ له ذلك لفرط محبته للعلم”

يقارن هنا صاحب طبقات الأمم بين الأندلس والمشرق في طلب العلوم القديم منها والحديث والتواليف والمصنفات، ويمثل لهذه المقارنة بين دولة بني أمية في الأندلس وأميرها الحكم المستنصر بالله وبين الدولة العباسية، ففي هذه المقارنة يظهر أن السلطة السياسية بالاندلس أصبحت تشجع على طلب العلم والعلوم القديمة أي الفلسفة وعلوم التعاليم، لأن الأمير الحكم كان أميرا متنورا قرب الفلاسفة وأقتنى الكتب وبنى المكتبات وملئ خزانات القصر بالكتب الفلسفية، فانعكس ذلك بأن أصبح الجو مناسبا لظهور الفلسفة والتأليف فيها ودراستها وتدريسها يقول صاعد: “فتحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم”، والملاحظُ أن إقبال الناس وتحركهم لطب الفلسفة وعلومها في زمن الحكم لن يستمر طويلا، بل سيتوقف بعد موته وفي زمن إبنه هشام المؤيد بالله، لأن التشجيع على الفلسفة جلب عليه حقد الفقهاء والعامة وهو ما سيستغله خصومه لصالحهم.

يقول صاعد حول نكست الفلسفة في عهد الأمير هشام: “وولي بعده إبنه هشام المؤيد بالله وهو يومئذ غلام لا يحتلم بعد، فتغلب على تدبير ملكه بالأندلس حاجبه أبو عامر، وعمد بعد تغلبه عليه إلى خزائن أبيه الحكم الجامعة للكتب المذكورة وغيرها وأراد ما فيها من ضروب التأليف بمحضر خواص من اهل العلم بالدين وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في علوم المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل حاشا كتب الطب والحساب” يمكن أن نستخرج من هذا النص حول نكسة الفلسفة في عهد الأمير هشام الملاحظات التالية:

-الصراع السياسي كان سببا مباشرا في منع كتب الفلسفة والتضييق على المشتغل بها.

-التزمت الديني بالأندلس وتشدد الفقهاء كان عاملا مشجعا للتضييق على الفلسفة.

-التقرب إلى العامة ونيل الرضى والولاء.

لقد تحالفت السلطة السياسية مع سلطة الفقهاء بالأندلس المعروفون بالتشدد ورفض كل ثقافة دخيلة، فكان نتيجة ذلك تراجع الإقبال على علوم الأوائل وضياع كتب الفلسفة بسبب ما فعله الحاجب أبو عامر حيث: “أمر بإحراقها وإفسادها فأحرق بعضها وطرح بعضها في ابار القصر وهيل عليها التراب والحجارة وغيرت بضروب من التغايير وفعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس” لقد أثرت هذه النكسة على الفلسفة حتى أصبح كل من يشتغل بها مطالب في دمه ومنبوذا من المجتمع لاتهامه بالإلحاد والخروج على الملة، وأضطر من بقي مشتغلا بها إلى التستر مخافة إفتضاح أمره، ويظهرون فقط العلوم المسموح بها كالحساب والطب “إلى أن إنقرضت دولة بني أمية من الأندلس وافترق الملك… في صدر المائة الخامسة من الهجرة وصاروا طوائف”

بعد النكسة التي عرفتها الحياة العلمية في عهد بني أمية وبالضبط مع أميرها هشام، سوف يلاحظ صاعد انه عند انهيار السلطة السياسية للأمويين، وذلك بسبب الفتنة التي عرفتها الأندلس والتي كان نتيجتها ظهور إمارات سياسية متفرقة ومتصارعة عرفت بملوك الطوائف، ستعود الفلسفة من جديد لتشكل المناخ الفكري وذلك بعد شيوع كتبها وعودت المشتغليين بها من السر إلى العلن، يقول صاعد الأندلسي:”وأظهر أيضا كل من كان عنده من الرعية شيء منها ما كان لديه منها فلم تزل الرغبة ترتفع من حين في طلب العلم القديم شيئا فشيئا وقواعد الطوائف تتمصر قليلا قليلا إلى وقتنا هذا فالحال بحمد الله أفضل ما كانت بالأندلس في إباحة تلك العلوم والإعراض عن تحجر طلبها” في هذا الجو إذن عادت الفلسفة بعد تفكك الأندلس السياسي، ما ولد إنفتاحا ثقافيا وشجع على الممارسة العلمية في زمن صاعد الأندلسي وبعده بقليل وبالضبط في نهاية القرن الخامس وبداية السادس للهجرة (11و12 للميلاد) مع فيلسوف مرموق كان تكوينه العلمي من نتائج هذا المناخ الذي ساد في عصر طوائف الأندلس وهو الوزير أبوبكر بن باجه السرقسطي.

لقد كان ابن باجه (ت533ه/1139م) أولُ فيلسوف أندلسي مشائي بالأندلس، لذلك يمكن أن نعتبره أول إنطلاقةٍ حقيقيةٍ للنظر الفلسفي، بعد أن كانت الفلسفة بالأندلس اشتغالا موازياً بجانب التخصصاتِ العلميةُ الأخرى لبعض الأفراد، كما أنه إشتغل بشكل علني ومنظم وترك لنا تواليف ورسائل تعبر على مشروعه الفلسفي بالأندلس، إستفاد ابن باجه من الحركة العلمية التي عرفتها سرقسطة ومملكة بني هود في شمال غرب الأندلس، كما استفاد من تشجيع أمراء سرقسطة التي عمل وزيرا في بلاط حكامها، وقد ترك لنا شهادته حول تكوينه العلمي في رسالة كتبها تحت عنوان: “ومن كلامه ما بعث به لأبي جعفر يوسف بن حسداي” وهو نص يقول عنه جمال الدين العلوي (1945م/1992م): “يمكن إعتبار هذه الرسالة … تمثل الشهادة الوحيدة التي نقلت الينا مراحل تطور فكر ابن باجه وتعاقب الإهتمامات العلمية لديه، ومن حيث أنها الوثيقة الوحيدة التي تسمح بترتيب أولي لمؤلفاته.”لقد صرح ابن باجه في رسالته بالمراحل التي قطعها تفكيره الفلسفي من بداية تكوينه حتى مرحة النضج ثم الإنتاج والتأليف، لذلك ستأتي تواليفهُ تعبيرا عن تطور كرونولوجي واضح في نصوصه وعبر مراحل حياته، يقول ابن باجه في بداية الرسالة: “وهذه الصناعة شغلت بها نفسي منذ تركت صناعة الموسيقى” يقصد علم الفلك أو الهيئة الذي اشتغل به في بداية تكوينه مع الموسيقى ثم يضيف قائلا: “وأما صناعة الموسيقى فإني زاولتها حتى بلغت فيها مبلغا رضيته لنفسي” و في نفس النص يتحدث عن تكوينه في العلم الطبيعي ويقول: ” ثم تجردت للنظر الطبيعي وأنا فيه لا أقدم عليه عملا”.

ومن خلال هذه الرسالة وغيرها من تواليف ابن باجه سوف يقسم جمال الدين العلوي مراحل تكون تفكير فيلسوف سرقسطة وفاس إلى:

1-المرحلة الرياضية والمنطقية: وهي التي انشغل فيها بالموسيقى والهيئة والهندسة والمنطق الأرسطي.

2-المرحلة الطبيعية: وهي التي تنقلها لنا شروحه على أرسطو، وكذلك مؤلفاته ورسائله التي تدور موضوعاتها حول مسائل في العلم الطبيعي.

3-المرحلة الباجوية: وهي ما نقف عليه في مؤلفاته المتأخرة…مثل تدبير المتوحد ورسالة الوداع ورسالة الإتصال.

نستنتج مما سبق أن ابن باجه شكل بالفعل بداية التفكير الفلسفي النسقي، من خلال مشروعه الذي غطى جميع العلوم الفلسفية، وهو ما مكنه بالفعل من تمهيد الطريق لأحد أعلام فلاسفة الاندلس وهو معاصرهُ أبو بكر ابن طفيل. فكيف كانت نظرت ابن طفيل لتاريخ الفلسفة بالأندلس؟

تحتوي مقدمة نص حي ابن يقظان على شهادة جميلة، يمكن أن تساعدنا في التعرف على خصوصية ومميزات التفكير الفلسفي في بداياته بالأندلس، فإبن طفيل وهو الفيلسوف العارف بقضايا عصره الفكرية ترك لنا إشارات مهمة في نصه حول بداية النظر الفلسفي حيث يقول: “وذلك أن من نشأ بالأندلس، من أهل الفطرة الفائقة، قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها، قطعو أعمارهم بعلوم التعاليم، وبلغوا فيها مبلغا رفيعا، ولم يقدروا على أكثر من ذلك، ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق، فنظروا فيه، ولم يُفضِ بهم إلى حقيقة الكمال”يقدم هنا ابن طفيل تأريخا للتطور العلمي يتفق مع ما نجده عند صاعد الأندلسي قبله، فهو يلاحظ أن الفلسفة بدأت بعلوم التعاليم التي أتقنها الأفراد وبلغوا فيها مبلغا رفيعا، ثم المنطق والفلسفة لكن لا أحد وصل بنظره إلى الكمال.

إذا كان الجيل الأول من الأندلسيين لم يبرع في الفلسفة ولم يصل للغاية،-حسب ابن طفيل- فإن الجيل الثاني من أهل النظر كان متميزا في الإشتغال بالفلسفة، ولم يفوت ابن طفيل هذه الفرصة للتنويه بابن باجه الذي وصفه بصاحب النظر الصحيح وخير ممثل للفلسفة والفلاسفة في الاندلس، حيث قال: “ثم خلف من بعدهم خلفٌ آخر، أحذق منهم نظرا وأقرب إلى الحقيقة… ولم يكن فيهم أثقب ذهنا، ولا أصح نظرا، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن الصائغ. غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته… فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه”.

-لم تعرف الحياة الثقافية بالأندلس قبل دخول المسلمين تقليدا علميا أو فلسفة.

-الحياة الفكرية بالأندلس طبعها التشدد الفقهي الذي ضيق على التفكير الفلسفي.

-الإشتغال بالفلسفة كان يظهر ويختفي بحسب الظروف السياسية.

-دخلت الفلسفة للأندلس عن طريق الإشتغال بالعلوم واستترت تحتها.

-تميز المشتغلون بالفلسفة في الأندلس بكونهم أفراد يتسترون بعلوم التعاليم.

-لقد كان ابن باجه أو مشتغل بالفلسفة ومؤسسٌ لأول مدرسةٍ فلسفيةٍ بالأندلس.

عن هسبريس



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.