مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


ثمة شيء ما يبتلعنا والآتي مرعب

مغربنا 1 المغرب

“أصعب اشتياق أن تشتاق لنفسك القديمة، ضحكتك القديمة وحتى لقلبك القديم”. صموئيل بتلر.

“الموضة علم المظاهر، وهي تلهم المرء بالرغبة في أن يبدو لا أن يكون”. ميشيل دي مونتين.

“… فنحن نشيخ والروبوتات (les robots) تعتني بنا. ونهمل أطفالنا، فتعتني بهم الروبوتات. ونحن جد منهكين لكي نهتم ببعضنا البعض أثناء المِحن، والروبوتات لها ما يكفي من الطاقة للقيام بذلك. كما أن الروبوتات لا تُصدِر علينا أحكاماً، بل تقبلنا كما نحن عليه”. شيري توركل.

لقد تفطّن الفلاسفة مبكّرا إلى أن ثمة شيء ما ينمو في أحشاء هذا العالم وراح ينهش كينونة الإنسان عبر مسيرته في الوجود: الاستغلال، العبودية، العنصرية، الاستلاب، الاغتراب، التشيّؤ، السيولة، التفاهة، التحول فالمسخ والآتي مرعب.

وحدهم الأنبياء انتبهوا إلى هشاشة الكينونة وحال الإنسان وتجندوا للعبور به من حياة فانية مؤقتة على الأرض نحو نهاية مثمرة تؤسس للخلود خارج الطبيعي فينا.

لقد أصبحت الأشياء المحيطة بنا تتهاوى، تنهار وتموت بعد أن صارت تفقد مكانتها بفقدانها للمعنى وللدلالة والوظيفة. عالم استبيح وهو ماض إلى أن يصير بلا أسرار ولا رموز، كل الحدود دمرت؛ لا الوصل بقي وصلا ولا الفصل بقي فصلا.

تحت وطأة الزمان وفعل الآلة، منذ عهد ليس بقريب بدأت تصدّعات وتشققات وتفكّكات تظهر هنا وهناك وتشتغل تارة بشكل هادئ مسالم بعيدا عن أي أشكال عنف، وفي أخرى عنيفة حد الدمار.

خلال العقود الأخيرة وعلى نحو لا يحتمل، حدثت وتحدث تحولات وانتكاسات هائلة: انجراف الأخلاق والقيم، المألوف فينا بهت وصار غريبا، جل المساحات الجميلة تبدّدت واستنفدت. تضخمت الذات: الرغبة في الظهور، عقل جامح، نرجسية كاسحة، أنا مفرطة، ثرثرة متواصلة وادعاءات لا متناهية.

تحت ذريعة “الحرية الفردية”، استعمالات غير مناسبة للجسد البشري اكتسحت فضاءاتنا ولوثتها حد الضجر. لقد صرنا نعيش تحت رحمة التقويض الكلي لما قامت عليه الحضارة البشرية منذ البدء، والملاحظ هو أن هذا الحدث لا يقع تحت أثر “مطرقة وعدمية نيتشه” ولا على منهج “عبثية كافكا” ولا تحت “سوريالية دالي” ولا على نمط “شذرات يأس وتشاؤم سيوران” ولا على أسلوب “تفكيكية دريدا”. بل عبر النداءات والانفعالات السلبية، عبر فتح مساحات شاسعة للخواء والفراغ، عبر خطاب التيئيس والتخويف والنكوص، عبر تعميم التفاهة واللامعنى والعتمة.

كل شيء صار يتآكل حد التلاشي: المعنى، القيمة، الهوية، الروح، الجسد، العلامة، الرمز، اللغز، السرّ، البعد… فهل هو عصر النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الحضارات، نهاية الإنسان، نهاية كبرياء الجسد، نهاية المعنى…؟ هل هو عهد الموت: موت الحضارة، موت الإله، موت الإنسان، موت المؤلف، موت الكتاب، موت القيم، موت الواقع…؟

المرعب والمخيف ليس العدم بل الخواء.

مَنْ مِنْ مصلحته أن يعطّل في الإنسان كل ما هو جميل: العقل، الحرية، المسؤولية، العزة والكرامة، العفة والأنفة، الحب والصداقة، الاجتهاد والإبداع، ويعيده إلى نقطة غريزية تتكئ على العبودية والعقم والتقليد والتكرار، على الظهور والغواية والإغراء والاستدراج والرغبة والنزوة والموضة؟

هل الزحف على بطوننا هو مصيرنا؟ أي ضمانات صارت لنا بعد اليوم كي لا نتحول إلى دواب من طينة “حشرة كافكا”؟ هل مازالت من مساحة تتسع للإنسان فينا أم ما سميناه بـ”الإنسانية” هو مجرد ادعاءات حول أنفسنا؟

منذ زمن بدأ عقد الأسرة الممتدة ينفرط؛ إذ انفضّ أفرادها من حول الجدّة وولوا وجوههم قبلة التلفاز وكل أشكال الشاشات والغرف المغلقة والمقاهي، لم تعد الجدّة هي تلك الخيمة التي تتسع للجميع من الرضيع إلى الجدّ حتى الحيوانات المنزلية. لم تعد هي تلك الشجرة الوارفة المثمرة التي يستظل تحتها الكل؛ إذ توارت إلى الخلف وسكتت عن السرد الجميل إلى الأبد، وحكاياتها الليلية كفّت عن النداء للجمع العام وعن التأثيث لفضاء حميمي دافئ وعن تحفيز الذاكرة على الاشتغال على السؤال ونسج الخيال متعدد الأبعاد وعن حفظ الذاكرة وعن الحكي وإعادة السرد. دخيل غريب اقتحم حميميتنا وأفسد علينا مجمعنا ووحدتنا، برودة ما تسربت إلى دفئنا. مقام الجدّة مقام جلل لم يكن لينهار هكذا دون أن يترك أثرا وتبعات مؤلمة، فالأذرع لم تعد حضنا ولا الحضن بات دافئا.

عندما انفضّ الجمع وهجر أفراد الأسرة الموقد/التنّور (coin de feu) حيث كانت التدفئة الطبيعية والحرارة المزدوجة الجماعية، وتفرقوا شيّعا وراح كل فرد يغلق من ورائه باب غرفته كي يستمتع لوحده بالمكيف الهوائي (climatiseur) أو بنظام التدفئة المركزي (chauffage central) وبشاشته المغرية، لحظتها بدأت حرارة ودفء الجماعة والإنسان في التآكل والاندثار تاركة مكانها لبرودة وصقيع الفردانية والآلة.

حين نفتح نافذة على العالم فنحن نبني أسوارا على محيطنا دون أن ننتبه.

يوم قرأت على صفحات إحدى الجرائد الفرنسية أن أحد شوارع باريس الذي عرف بنشاطه الثقافي والمملوء عن آخره بالمكتبات ودور النشر ونور الكتاب، قد أفرغ من محتواه وتحول إلى شارع للمطاعم والوجبات السريعة وإلى متاجر للعطور والملابس، علمت أن عالما آخرا قيد التّشكّل بدأ يظهر.

يوم تحول مكان المركز الثقافي السوفياتي بأحد الشوارع وسط مدينة الرباط إلى مطعم ماركة أمريكية “ماكدونالدز” (McDonald’s)، لحظتها فهمت أن زمن الثقافة بدأ يتوارى وأن زمنا آخرا بدأ يطل علينا ببطنه.

يوم أغلقت جل قاعات السينما بالمدن المغربية وبعدها هدمت وعلى أنقاضها بنيت متاجر ومكاتب وشقق للسكن، لحظتها انتبهت إلى أن وجها آخرا للعالم، للحضارة والتحضر بدأ يطفو في الأفق. يوم اختفى الملحق الثقافي الأسبوعي من صفحات العديد من الجرائد وحلّ محله ركن للطبخ وآخر للموضة وثالث للتجميل، وصارت أخبار النجوم والمشاهير وكرة القدم والفضائح الجنسية تؤثث جل الصفحات، يومها أدركت أننا نُهَيَّأ لعالم ليس بعالمنا.

عندما لاحظت أن الجنرال الفرنسي شارل ديغول (Charles de Gaulle) بما له من ثقل ورمزية يوضع في الميزان نفسه مع نجم كرة القدم زين الدين زيدان وأن شعبية هذا الأخير أثقل وأكثر من شعبية الجنرال في فرنسا، لحظتها فهمت أن مفهوما آخر للوطن حلّ محل ما تعلمناه وتربينا عليه.

عندما رأيت اكتساح الإسمنت المسلح والإسفلت للغابات وللأراضي الزراعية الخصبة ولشواطئ البحار ولضفاف الأنهار بصمت وتواطؤ الكل من الفلاح حتى المسؤول السياسي، لحظتها علمت أن مفهوما آخرا للمدينة والتحضر غير الذي عرفناه بدأ ينمو.

عندما رأيت الدين يحجر عليه ويعبأ في الأكياس والإيمان يقاس بحجم اللحية وفصيلة القماش وأن أناسا نصبوا أنفسهم حراسا على الملّة والعقيدة والآخرة وأصبحوا يبيعون للبسطاء من الناس ما في السماء كي يسلبوهم ما في الأرض، لحظتها علمت أن هناك من يعملون في مختبرات ويسهرون على صناعة أديان حديثة بلا روح بلا قيّم؛ لكن مدرّة للدخل المريح.

عندما انتبهت إلى أن صورة السياسي في مجتمعاتنا مخدوشة إلى الحد الذي يصنف فيه في أسفل درجات سلم الأخلاق والقيّم؛ إذ يعتبر أقل الناس صدقا وأمانة وأكثرهم تحايلا وكذبا وخداعا، وقتها تيقنت أننا في منحدر نحو الحضيض وأن عصرا معتما في طور البزوغ.

عندما لاحظت أن الرأسمالية العالمية امتدت إلى شفرة الجسد البشري وراحت تحوله وتحوره حد المسخ وأن ذواتا بشرية أصبحت مواضيع وقطعا مختبراتية تحقن بالبوتكس والفيلر وترمم بالسليكون، علمت أن ماهية الإنسان بدأت تتآكل وأن كائنا حيا ما بعد الإنسان في طور الولادة.

ما الذي جعلنا نتحفظ ونعترض على هذا الكم من التحولات المرعبة؟ لماذا يخيفنا هذا المسخ الذي حلّ بكوكبنا؟ هل لأننا غير قادرين على تتبع ومجاراة ما يحدث من تطورات أمامنا؟ هل أصبحنا محافظين إلى هذا الحد؟ هل لأننا صرنا من قدماء هذه الأرض؟ أم لأن عالما بلا روح مضى خطوات في التشكّل وبدأ يطل علينا عبر ظواهر عديدة؟ أم هو حنين ما إلى مرحلة ولّت يحضر كل من توغل في الحياة وطوى سنين عديدة من عمره القصير؟ هل يقتضي الأمر منّا فقط أن نتعايش مع كل هذه الأنماط أو نتحسر على ما مضى ولن يعود أبدا؟

علينا أن نتساءل لمن يبنى أو لمن يدمر هذا العالم؟ أليس هو أمانة في أعناقنا جميعا للّدين سيولدون من بعد؟ ربما لن يتسلموا منا إلا بقايا وأطلال كون بعد أن نلطخه ونشبعه تلوثا وخرابا؟ كالقطعان نساق إلى حيث حتفنا، يموت فينا الإنسان ونصبح مجرد آلات: برودة وصقيع، لا حرارة، لا دفء، لا رحمة، لا حب، لا حميمية، لا جمال، تواصل دون الحضور وحضور بلا روح، بلا نكهة، بلا طعم، بلا رائحة، بلا همس ولمس…

لقد ابتلعتنا التقنية والآتي مرعب، ومؤرخو المستقبل قد يعتمدون تحقيبا للتاريخ حسب الطفرات التقنية الكبرى. الآن نحن في الطريق إلى تفكيكات مفزعة، تحت ضربات التقنية المتتالية ماهيتنا كإنسان بدأت تتآكل وتنهار، فهل بإمكاننا وبمقدورنا أن نعيد بناء الذات أو نرمم هذه الخدوش التي أحدثتها فينا صنيعتنا؟

أين سنقيم بعد هذه الانهيارات المتتالية؟ من باستطاعته بعد اليوم أن يعيد إلى المعنى وهجه وجاذبيته ونبله؟ كيف سنواصل شكل حضورنا على كوكب الأرض ونحن لا نتحرر إلا لِنُسْتَعْبَد ولا نبني إلاّ لِنُدَمِّر؟

ذات شذرة كتب “إيميل سيوران” يقول: “الإنسان كائن يفرز الكارثة”، هل نحن في طور الكوارث؟ هل دخلنا منطقة الفواجع؟



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.