مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


القادة الجدد لتيار الدفاع عن العلمانية في المجال العام.

يكتب بعض المعلقين، تفاعلا مع ما أكتبه على هامش جدل “الشيخ والشيخة”: ذهبت بعيدا. وهذه الجملة توصيف صحيح، لما أردته في التحليل. دوري، أن أقدم تحليلا، يجرد الموضوع من تفاصيله الجزئية الخبرية، ويبعد به، عن جدل: من مع، ومن ضد، بأسلوب المسابقات الثقافية. أردت أن أفسر هذا الحدث، بربطه بالأفكار الكبرى، حتى ننسى الفاعلين الذين يجسدونه في الواقع.
قلت في المقال السابق، الذي عنوانه: “القادة الجدد لتيار الدفاع عن الإسلام في المجال العام”، أن هذا التيار موجود، ووجوده مرتبط بمفاهيم مؤسسة في النص الديني، وينتظر في كل مرحلة تاريخية، أن يعبر عنه رموز من الدعاة و العلماء، أو الأحزاب السياسية. ولذلك، فرموز هذا التيار جذورهم في السلفية الوطنية، وعلى رأسهم علال الفاسي، وحزب الاستقلال، لكن وقعت تحولات، وظهرت شخصيات جديدة تحمل الفكرة الأولى مع قادة الحركة الإسلامية، فحل محل حزب الاستقلال حزب العدالة والتنمية، وهكذا. قد تنجح الأحزاب والشخصيات في التعبير عن هذا التيار وقد تفشل. وقلت: إن ياسين العمري وغيره من الرموز الجدد، والجمعيات الإسلامية الجديدة، تجتهد للتعبير عن هذا التيار، بعد غلق قوس مرحلة شخصيات وأحزاب انطلقت بداية السبعينات، تمثل الجيل القديم. فهذه الحالة التي يعيشها تيار الدفاع عن الإسلام في المجال العام، يعيشها تيار الدفاع عن العلمانية في المجال نفسه.
لابد من التذكير، أن جدل العلمانية والإسلام، خلقه الاستعمار، ولم يكن هذا الجدل قبل دولة ما بعد الاستقلال، لأن البنيات المتحكمة في تدبير المجال الخاص والعام، كانت بنيات فقهية، تقودها مؤسسة علماء الشريعة، عبر تسلسل هرمي، يبدأ من إمام الشرط في الدواوير إلى العالم المجتهد، وعلاقته بطبقة أهل الحل والعقد، والتي تنظم العلاقة بينها وبين السلطان الذين يحمي الوطن من العدو الخارجي، ويحفظ البلد من الفتن الداخلية.
قام الاستعمار بدور فعال في شق صف النخبة القيادية، لأن الدولة التي بناها، استثمر فيها الثقافة السلطانية التي تفرض الطاعة والانضباط، ومؤسسات الدولة الحديثة، التي تتحكم في تفاصيل أفراد المجتمع، عبر مؤسسة وزارة الداخلية. ولذلك، الدولة تمزج بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والتحديث. وهذه الهوية، عززها الحسن الثاني رحمه الله، فهو يمثل شعبه بصفتين: صفة امير المؤمنين؛ وصفة الملك. ولهذا، قال عبد الله العروي في كتاب ديوان السياسة، إن الدستور المغربي، يمكن أن تؤوله تأويلا محافظا، ويمكن أن تؤوله تأويلا حداثيا، بمعنى آخر، المحافظ يجد نفسه في الدستور، وكذلك الحداثي.
ومن أجمل الكتب التي أوضحت هذا الجدل بين الحداثي والمحافظ، كتاب معتقل الصحراء، للمختار السوسي رحمه الله، حيث يحكي قصة اعتقال رموز الحركة الوطنية في معتقل “اغبالو نكردوس” بالراشدية، سنة 1952، وكان منهم المختار السوسي، والمهدي بن بركة، وآخرون. وكان المختار يسرد قصص هذه النخبة داخل المعتقل، وبدأت تظهر الفوراق الفكرية بينهم، فالذين درسوا في المدارس الحديثة، لهم تفكير ليبرالي، كالمهدي بن بركة، والذين درسوا في التعليم العتيق، لهم تفكير محافظ كالمختار السوسي.
أسست دولة الاستقلال لهذا التماير، إذ الشأن الديني، اصبحت له مؤسسة وزارة الأوقاف، وكان المختار السوسي أول وزير لها، لكن باقي المؤسسات ذات توجه حداثي، ينسجم مع طبيعة مؤسسات الدولة الحديثة. كان يسار يدافع بقوة عن دولة حداثية معاصرة، فاضطر الحسن الثاني لمواجهتهم بالتقاليد، التي أحياها بقوة، إذ الدين أصبح حاضر في المجال العام تحت رعاية الملك في مواجهة خصم سياسي يريد الإطاحة به.
لكن هذا الجدل مع وفاة الحسن الثاني، انتقل من دائرة الحكم إلى دائرة الأحزاب السياسية فيما بينها، وظهر بجلاء في المسيرتين يوم 8 مارس 2000: مسيرة الإسلاميين؛ ومسيرة الحداثيين، وأصبح الملك حكما بين الطرفين، لإعادة صياغة مدونة الأحوال الشخصية.
برز حزب العدالة والتنمية بعد مسيرة الدار البيضاء، القوة الأولى المدافعة عن الإسلام في الشأن العام بدون منازع. وظهرت الأحزاب السياسية خائفة، من مواجهة الإسلام السياسي، خاصة الاتحاد الاشتراكي، الذي حمل البيجيدي في 16 ماي 2003، المسؤولية المعنوية. لم يستطع الاتحاد الاشتراكي مواجهة البييجيدي، والدفاع عن العلمانية في المجال العام. ولذلك، ظهر ما سمي بتيار حركة لكل الديقراطيين، التي أسسها مستشار الملك فؤاد عالي الهمة، والتي أعلنت بوضوح مواجهة الإسلاميين، كما عبر عن ذلك الهمة في قناة دوزيم، أو كما عبر عنها إلياس العمري: جئنا لمحاربة الإسلاميين من أجل الإسلام.
فشلت الأحزاب في مواجهة البيجيدي على المستوى الإيديولوجي، لأنها تخاف من المواجهة مع المواطنين، فأصبح التيار العلماني، الذي يؤمن بالدين في المجال الخاص فقط، يواجه البيجيدي وتياره الذي يمثله، عبر شخصيات: كالأستاذ أحمد عصيد. وعبر مجلات: كملة نيشان. وعبر مجلات نسائية مستفزة: كسيطادين. ثم التيار الحقوقي الذي يدافع عن الحريات الفردية. ولا ننسى دور السينما والمسلسل، عبر قناة دوزيم.
حين شارك البيجيدي في الحكومة لمدة 10 سنوات، اختفى خطاب الدفاع عن الإسلام في المجال العام، وتحويل ذلك إلى سياسات عمومية، بل إن البيجيدي الذي أخرج مليون مواطن ضد الخطة سنة 2000، كان يرفض بعض بنود اتفاقية سيداو، لكنه وافق عليها في حكومة بنكيران، ثم تلاحقت التناقضات، واقواها التناقض في موضوع مواجهة التطبيع، والذي كان يستند لخطاب ديني مباشر.
أصبحت الأحزاب المغربية، لا تمثل تيار الدفاع عن الإسلام، ولا تمثل تيار الدفاع عن العلمانية، لأنها فقدت المصداقية، وأصبحت تتناقض مع نفسها. لكن التيارين يحضران بقوة في المجتمع، وأصبحا يدبران الجدل بينهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كل تيار له رموزه وشخصياته، بعيدا عن المؤسسات الحزبية.
يمكن اعتبار أحمد عصيد رمزا قويا للدفاع عن العلمانية، و يتحدث بجرأة بوجه مكشوف، وبسردية خطابية متماسكة، تريد الحسم، وتطلب من المغاربة أن يحسموا، حيث يقول: إما دولة دينية وإما دولة مدنية. موظفا في ذلك، ما هو معلوم في أبجديات الدولة الحديثة من مفاهيم، خاصة مفهوم المواطنة.
أحمد عصيد داعية علماني، وله قوة خطابية وحجاجية مؤثرة، تمثل هذا التيار. الآن، التحق بهذا التيار المدونة مايسة سلامة الناجي، وتعيد خطاب عصيد نفسه، بأسلوبها، لكنها أحينا تشوش عليه. ثم هناك شبكة متناثرة من الفعاليات في الإعلام والفن.
ما نحتاج إليه اليوم في المغرب، أن هؤلاء القادة الشباب الجدد، وما يدور في فلكهما من جمعيات وشخصيات، يجب عليهم أن يعقلنوا النقاش والجدل، عبر الآليات الديمقراطية، وأن تحتضن هذا الجيل الجديد، مؤسسات ديمقراطية، تسهم في الرفع من منسوب النقاش الجاد، وتدبيره بآليات جادة، دون اللجوء إلى العنف والعنف المضاد. أصبحت هذه المعارك الإيديولوجية محتضنة من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ويظهر في التعليقات، حجم مشاعر الكراهية والعنف المعنوي بين الطرفين، وهذا لا يسهم في تطوبر النقاش، ولا يثمر إلا الشتائم، دون الإسهام في تنمية الدولة والمجتمع، وقد يتحول الصراع إلى استخدام العنف الجسدي.
فهل هذا التياران، إذا ما شارك قادتهما الجدد في المؤسسات، سيعيدان التجربة نفسها للقادة القدامى، إذ الخطاب الهوياتي القيمي ما هو إلا مطية لمصالح شخصية؟ وهل الدولة ستحتضنهما لتطوير المجتمع أم أنها ستستمر في لعبة حفظ التوازنات؟.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.