مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


تقويم التلميذ وتقويم الأستاذ

مغربنا 1 المغرب

تشكل لحظة الامتحان مناسبة لتقويم أداء المنظومة التربوية بكل مكوناتها، فاعلين ومنفعلين. لكن الثقافة السائدة، كرست رؤية أحادية وتعريفا دون غيره لفعل التقويم، تنصرف رأسا إلى المتعلم كموضوع وحيد وأوحد له. حيث اتخاذ قرار بشأن المتعلم، انتقاله إلى المستوى الموالي، أو بقاؤه في قسمه، هو ما يبرر كل المجهودات التي تبذل لتمرير الامتحانات والاختبارات. في حين يتم التغاضي عن باقي العناصر الأخرى المشكلة للمنظومة، ومساهمتها بقسط يقل أو يكثر حسب الموقع الذي يشغله كل عنصر، في ما حققه المتعلم من نتائج محمودة كانت، أو بعيدة عن الأهداف المتوخاة.

ويبقى الأستاذ(ة) من بين أهم الحلقات والفاعلين الأساسيين في ما حققه المتعلم، والجسر الأمتن للارتقاء والتدني، ليس للمتعلم فقط، بل لكل المجتمع. فهل يقبل بوضعه موضع النقد والمساءلة عما آل إليه مستوى المتعلم صعودا ونزولا؟ أم أن الحديث عن الأستاذ(ة) لا يستقيم إلا في سياق الإشادة والتبجيل؟ فالنجاح هو صانعه، والفشل راجع إلى عوامل خارجة عن دائرة مسؤوليته، بل راجع إلى القرارات السياسية والإدارية البيروقراطية والارتجالية، التي ساهمت في تخريب المدرسة العمومية. فيصبح الأستاذ كالمتعلم من ضحايا هذا العبث، وليس شريكا ومساهما في هذا المغرم، كمساهمته في المغنم.

إنه خطاب يعلو صوته يوما عن يوم، ويكسب مزيدا من الأنصار. وقد غدت جبهة تنبري لتسفيه وتجريح كل مقال يعزف غير هذا اللحن، لأننا بصدد هيئة ينبغي “أن نبتعد أمتار عن ظلها، حتى لا تدوسها أقدامنا ولو بالخطأ”. أو تنال ألسنتنا من حسن أدائها، وإنزالها من برجها الذي تبوأته منذ عصور عديدة، وعبر أجيال مديدة. وبالتالي فهو كلام مردود مهما توسل من حجج وبراهين، وتردد على أكثر من لسان. وصاحبه مشبوه، هدفه تشتيت الصفوف، يستحق أقبح الأوصاف والنعوت. وهكذا يصبح نقد الأستاذ وتقييم أدائه من الطابوهات التي ينبغي الاقتراب منها.

لقد تم الخلط كثيرا بين نبل الرسالة التربوية وحاملها، هذا الأخير الذي اكتسب من شرفها الشيء الكثير عن جدارة واستحقاق وهم كثر، وآخرون حملتهم الرسالة، فأخذوا منها صفات النبل والشرف، ولم تأخذ منهم الجهد المطلوب، والكد المرغوب. والحديث هنا عمن توفرت لهم ظروف العطاء، وليس المقصود أولئك الذي يصارعون الوحل والحر والقر، ويذهبون صعود الجبال وهبوط الحفر بكل ما اكتسبوا من الجهد، وما ادخروا من طاقة.

يسمح الكثير من الأساتذة لأنفسهم باتخاذ قرارات في حق تلامذتهم، وتوجيه أحكام قيمة حول أخلاقهم ونمط تربيتهم الأسرية، كما يذهب البعض إلى الحسم في مستقبلهم ومصيرهم الدراسي وغيره. لكنهم لا يسمحون لهم بإبداء رأيهم في نمط العلاقة التي تجمعهم بهم، وكيف تؤثر على سلوكهم الدراسي، والإفصاح عن حاجاتهم وما يقف سدا منيعا دون التواصل معهم بشكل فعال. بل نجد من يقابل كل ما يصدر عن المتعلم بالصد واللامبالاة، ليس له من الوقت لضياعه، وسعة الصدر لسماع ما يخالف اعتقاداته التي راكم عبر سنين عديدة، جعلته يحشر التلاميذ في صناديق، مصنفة بشكل نمطي و آلي، بداعي أن الخبرة اكسبته هذه المقدرة على قراءة خبايا المتعلم، والتنبؤ بسلوكاته. وأنه كلما أفسح المجال للتعبير وإبداء الرأي، إلا وكان الهدر الزمي والكلامي، وفقدت هبة الأستاذية، وتطاولت الألسن. والمقرر طويل، والزمن لا يسمح بغير الإملاء والنقل، مع العدو السريع لإتمامه.

تخول السلطات التربوية لجهاز الإشراف التربوي مهمة تقييم عمل الأستاذ، أي إصدار حكم حول أدائه. وهي العملية التي تشمل الجوانب المعرفية والفنية والإنسانية. كما يمكن إشراك أطراف أخرى في هذه العملية، ويبقى أهم مؤشر دال على كفاءة الأستاذ ونجاعة أدائه، ذلك الأثر الذي يتجلى في مكتسبات المتعلم وسلوكه، والتغيير الذي طال جانبا أو جوانب من شخصيته. ولهذا يتردد كثيرا على الألسن: “المعلم مصدر التغيير في مجتمعه”، لأن أطفال اليوم هم نساء ورجال الغد.

إن تعالي الكثير من الأساتذة عن قبول النقد والتوجيه، مهما كانت الجهة التي تتولاه، معوقا ضمن معوقات أخرى للمنظومة التربوية، ويزداد الأمر سوءا، حينما يطال هذا الرفض المشاريع الإصلاحية. بدعوى أن الأستاذ هو المؤهل والأجدر أكثر من غيره لمثل هذه المهام. نحن هنا أمام شخص ليس مالكا للمعرفة فقط، بل منتجها والقادر على تحديد المهم منها والأهم، وما يصلح لهذا السن أو ذاك. فلا غرو، أن نجد من بين هؤلاء من يطلب، أن تُخول له سلطة الاختيار للمضامين والطرق… وكذا السماح له باختبار التلميذ بعيدا عن أي ضوابط محددة خارج ما يراه، لأنه الأقرب للمتعلم، والمصاحب له خلال بناء مكتسباته.

“كل نظام عظيم، يكمن في قبوله للمراجعة، والنقد والإنماء والتغيير” (عبد الكريم بكار)، ولعظمة الفعل التعليمي، وحيوية خدماته، يحظى بالكثير من المتابعة والنقاش العمومي. ومثل هذا النقاش هو السبيل إلى تطويره وتجويد أدائه، ككل الميادين الأخرى التي تحلل وتدرس آراء الزبناء. فنحن نبيح لأنفسنا توجيه ما شئنا من النقد لكل من تولى مسؤولية ما، ونرفض بل نشكك في الناقد ونواياه، حينما يتعلق الأمر بذواتنا، فينبغي “أن تتم القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر” (إميل سيوران).

عن هسبريس



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.